لماذا نجحت حملة (لا حج بلا تصريح)

هناك مشاهد لا تصنعها الحكايات، بل تعيشها القلوب وتبقى فيها. مشهد الحجاج هذا العام في موسم حج 1446هـ، وهم يتنقّلون بسكينة وطمأنينة بين المشاعر، لم يكن نتيجة انتظام الحشود فحسب، بل انعكاس لصورة وطنٍ قرر ألا يكون مجرّد منظم، بل مضيفًا بأقصى ما تعنيه الكلمة من مسؤولية، واحتواء، وإنسانية.

لم يكن التنظيم مجرد تطبيقات أو كاميرات أو خدمات لوجستية، بل كان تجسيدًا لحالة وعي جماعي، تبدأ من أعلى هرم القيادة، وتنساب عبر الوزارات، ورجال الأمن، حتى تصل إلى يد مواطن يوزع ماءً باردًا أو يشير إلى الطريق وهو يبتسم. الحاج لم يشعر بأنه في عبور مؤقت، بل في ضيافة كاملة، تُشعره بأن كل من حوله جاء ليخدمه من قلبه، لا من موقعه فقط.

وفي قلب هذه اللوحة، كانت التقنية حاضرة، لا بوصفها غاية، بل وسيلة تحفظ الكرامة وتيسر الوصول وتمنع الخلل. لم تُعلن نفسها، بل عملت بصمت، كما تفعل الأدوات التي لا تُرى، ولكن يُحس أثرها. التقنية لم تكن وحدها من صنعت الفرق، بل ذلك الانسجام بين العقل التقني والقرار القيادي. خُططت الأجهزة لتخدم الهدف لا أن تتصدر المشهد، فكانت في الخلفية تُنظم وتضبط وتمنع قبل أن تتعقّد الأمور.

ومن أبرز ما أثمر عنه هذا التوظيف الذكي، حملة «لا حج بلا تصريح» التي لم تكن إجراءً احترازيًا، بل رسالة بأن الحج عبادة تُصان قبل أن تُؤدى. لم تكن أداة ضبط، بل أداة تنظيم تحمل في جوهرها الرحمة. جعلت من الدخول إلى المشاعر امتيازًا لمن استحق، لا فوضى مفتوحة على احتمالات الإنهاك والخلل. الحملة لم تُقصِ أحدًا، بل منحت الجميع حق الطمأنينة، ورسّخت معنى الالتزام بوصفه صورة من صور الاحترام الجماعي للشعيرة، لا مجرد امتثال لإجراء.

وعندما تنظر إلى هذا التمازج بين الجهات، والتكامل بين القطاعات، ستدرك أن القيادة لم تكن تنجح وحدها، بل تُشرك الوطن كلّه في هذا الشرف. من يقود الطائرة، ومن يعالج ويسعف المرضى، ويطعم ويسقي، ومن يرسم الخطط، ومن يرشد الحجاج، ومن يُبرمج الأنظمة، ومن يتطوع تحت أشعة الشمس، كلّهم يشكّلون ملامح المشهد الواحد: صورة لوطنٍ يُشارك ويُنظّم، ويبتكر وهو يُضيّف.

ختاماً، في حج هذا العام، لم تُرفع فقط رايات التنظيم، بل رُفعت رايات التقدير، رايات بأننا قادرون أن نكون نحن في أعظم لحظات الآخرين. ولهذا كان الحج ناجحًا، ليس لأنه اكتمل، بل لأنه عبّر عنّا، عن السعودية التي تؤمن أن خدمة الحاج شرف، وأن التنظيم قيمة، وأن السكينة لا تُفرض، بل تُزرع.

@BinOthman90

اضغط هنا للانتقال الى المقال المنشور في الصحيفة

Previous
Previous

ثقافة احترام الأماكن العامة تبدأ من التفاصيل

Next
Next

الإعلام السعودي.. صناعة تتجاوز الحدود وتستشرف المستقبل